الشبهة الثالثة : قولهم عن علماء السنة السلفيين بأنهم موظفون لدى الحكومة.
والجواب على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: نقول : و هل حكومتنا كافرة؟! حتى تحرمون العمل عندها؟
قال الشيخ محمد أمان الجامي - رحمه الله تعالى - : محاولة التلبيس على الشباب ليعلنوا لهم أنهم هم العلماء وهم الدعاة وأن غيرهم مع السلطة .افرض أننا ـ جميعاً ـ مع السلطة ، هل السلطة كافرة ؟نحن مع السلطة والسلطة معنا . أنتم مع السلطة ، والسلطة معكم .أين تعيشون أنتم ألستم تعيشون تحت هذه السلطة ،موظفون في هذه السلطة .لماذا هذا الكذب ، من منكم بعيد عن السلطة ، تتعاملون معهم .
يا سبحان الله هل هي سلطة كافرة ........)إلى أن قال: ((لا يجوز هذا التلبيس ! راقبوا الله ربَّ العالمين ماهذا ؟ ))اهـ النصيحة.
والناظر في تاريخ المسلمين: يجد كثيرًا من علماء الأمة، قد جعل الله لهم مكانة ومهابة في نفوس بعض السلاطين، وكانوا يجلُّونهم، ويقبلون مشورتهم، فكم كان لمالك من هيبة ووقار في نفس بعض أمراء بني العباس - على ما فيهم - حتى ذكروا أن المنصور أو الرشيد طلب من مالك أن يجمع الناس على ((الموطأ ((؛ فأبى مالك - رحمه الله تعالى - وهذا من كمال عقله، فهل أنزل هذا من مكانته شيئًا ؟!
وهذا الزهري الذي يدور عليه الإسناد، وهو الإمام الثبت، كان يدخل على أمراء بني أمية، ويجالسهم، فهل أنزل هذا من مكانته ورتبته ؟.
قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - (( وما زال عَمَلُ المسلمين على هذا ، منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن ، مع كل ملك من الملوك : فجماعة يلُون لهم القضاء ، وجماعة يلُون لهم الإفتاء ، وجماعة يلُون لهم على البلاد التي إليهم ، وجماعة يلُون لهم إمارة الجيش ، وجماعة يُدرِّسون في المدارس الموضوعة لذلك ، وغالب جراياتهم من بيت المال .
فإن قلت : قد يكون من الملوك من هو ظالم جائر !!
قلت : نعم ، ولكن هذا المتَّصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم ، بل ليقضي بين الناس بحكم الله ، أو يفتي بحكم الله ، أو يقبض من الدعاوَى ما أوجبه الله ، أو يجاهد من يحق جهاده ، ويعادي من تحق عداوته ، فإن كان الأمر هكذا ؛ فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته ؛ لم يكن على هؤلاء مِنْ ظلمه شيء ، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم - ولو أقل قليل ، أو أحقر حقير - كان مع ما هو فيه من المنصب مأجورًا أبلغ أجر ؛ لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق ، ويكره الباطل ، ويسعى بما تبلغ إليه طاقاته في دفعه ، ولم يُعِنْه على ظلمه ، ولا سعى في تقرير ما هو عليه ، أو تحسينه ، أو إيراد الشبهة في تجويزه ، فإذا أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور ؛ فهو في عداد الظلمة ، وفريق الجَوَرة ، ومن جملة الخونة ، وليس كلامنا فيمن كان هكذا ، إنما كلامنا فيمن قام بما وُكل إليه من الأمر الديني ، غير مشتغل بما هم فيه ، إلا ما كان من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو تخفيف ظلم ، أو تخويف من عاقبة ، أو وعظ فاعله بما يندفع فيه بعض شره .
وكيف يُظن بحامل العلم ، أو بذي دين : أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم ، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم...)). اهـ رسالة : " رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين" ضمن مجموع " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني
فقولكم((موظفون لدى الحكومة)) قول ساقط لأنه لا يلزم من ذلك أن يكون العالم ممن يبيع دينه بيعًا رخيصًا.
ثم هل ثبت أن هؤلاء العلماء الكبار خالفوا الحق الجلي طمعًا في رضى السلطان ؟! ((سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )).
الوجه الثاني: هؤلاء المنحرفون عن العلماء الذين يقولون بهذا الكلام الساقط لم يقبلوا فتاوى بعض كبار العلماء الذين لم يأخذوا معاشًا ولا راتبًا من الدولة، بل ما سَلِموا من أذى وطَرْد بعض الحكام لهم!! كما هو حال محدث العصر، وريحانة الزمان، صاحب الفضيلة شيخنا محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله تعالى – فلم يكن له معاشٌ ولا وظيفة في الدولة، فهل شفع ذلك له عند هؤلاء الشباب الثوريين ؟! هل قالوا: إنه عالم مطرود من بلده، ومضيَّق عليه في الخطب والمحاضرات، وقد سُجن حيثُ سُجن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وليس له معاش من حكام زمانه، فكل هذا يُسَوِّغ لنا الأخذ عنه ؟! هل راجعوا أنفسهم بهذه الأمور، أم أنهم لا يبالون بمن خالف فهمهم الفاسد، ولن يعجزوا عن إظهار علة - في نظرهم ونظر أتباعهم - تنفر الناس عن الأخذ من هذا الإمام وإخوانه أئمة الزمان ؟!
الوجه الثالث:أن طاعة ولي الأمر في المعروف مهما كان فاسقا أو ظالما ومواجبة بالإجماع ولا يخالف هذا إلا خارجي مارق فكيف تطلبون من أهل العلم عدم العمل عندهم في امر خيري كهذا ؟!
فقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعة الأمير من طاعته صلى الله عليه وسلم كما قَالَ عليه الصلاة والسلام :"مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي
" .رواه مسلم.
ولا يقولنا قائل أن هذا خاص بالحكام العادلين لأن هذا لم يعرف عبر التاريخ بعد عهد عمر ابن عبد العزيز إلا نادرا بل هناك من الأمراء قديما من قال بالكفر كالقول بخلق القرآن بل وقد حث على إعتناق هذا القول الكفري ومع هذا نجد أن سيرة أهل العلم معهم السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم وعلى رأسهم الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله وقد تواترت النصوص في وجوب السمع والطاعة في المعروف للأمير مهما ظلم وجار ونكتفي بهذا الحديث الشافي والكافي أخرج مسلم في (( صحيحه )) (127) عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما قال :
قلت : يا رسول الله ! إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال ((نعم ))، قلت : هل وراء ذلك الشر خير ؟ قال (( نعم )) قلت فهل وراء الخير شر ؟ قال : (( نعم )) قلت : كيف ؟ قال ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ))
قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله – أن أدركت ذلك ؟ قال : ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)).
وهذا الحديث من أبلغ الأحاديث التي جاءت في هذا الباب إذ قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأئمة بأنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته وذلك غاية الضلال والفساد ونهاية الزيغ والعناد فهم فهم لا يهتدون بالهدي النبوي في أنفسهم ولا في أهليهم ولا في رعاياهم ... ومع ذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم – في غير معصية الله – كما جاء مقيداً في حديث آخر – حتى لو بلغ الأمر إلي ضربك وأخذ مالك، فلا يحملنك ذ لك على ترك طاعتهم وعدم سماع أوامرهم، فإن هذا الجرم عليهم وسيحاسبون ويجازون به يوم القيامة.
فإن قادك الهوى إلي مخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم، فلم تسمع ولم تطيع لأميرك لحقك الآثم ووقعت في المحظور.
وهذا الأمر النبوي من تمام العدل الذي جاء به الإسلام، فإن هذا المضروب إن لم يسمع ويطع، وذك المضروب إذا لم يسمع ويطع ... أفضي ذلك إلي تعطيل المصالح الدينية والدنيوية فيقع الظلم على جميع الرعية أو أكثرهم، وبذلك يرتفع العدل عن البلاد فتتحقق المفسدة وتلحق بالجميع.
بينما لو ظلم هذا فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج، وسمع وأطاع لقامت المصالح ولم تتعطل، ولم يضع حقه عند الله – تعالي -، فربما عوضه خير منه وربما ادخره له في الآخرة.
وهذا من محاسن الشريعة، فإنها لم ترتب السمع والطاعة على عدل الأئمة، ولو كان الأمر كذلك، لكانت الدنيا كلها هرجاً ومرجاً، فالحمد لله على لطفه بعباده.
وعلماءنا بحمد الله على هذا سائرين فهم يعملون في السلطة تعاونا معها في الخير ولا يلزم من ذلك انهم يعينونهم على ظلمهم كما بينا آنفا.
ولله در شيخنا العلامة محمد أمان جامي حين قال((ما يقوله بعض السفهاء في بعض طلاب العلم أن كل من يذكر الحكام بخير أو يدعو لهم أو يقول : إنها دولة إسلامية ؛ أنه من العملاء ومن كذا وكذا !
هذا كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه . كلام ساقط لا يقوله إلا الساقطون .
نحن لا نخفي الولاء ، نعلن بالولاء ، فيجب أن نعلن ـ نحمد الله ـ أن كنا في ولاء حكام مسلمين لا نبالي من هذه الأقوال الرخيصة ولا نلتفت إليها وهكذا يجب على طلاب العلم وأهل الفضل أن لا يلتفتوا إلى مثل هذه الكلمات الساقطة وأن يكونوا صرحاء في الدعوة للحكام ومحاولة التقريب بين الراعي والرعية ليتحاببوا ويتعاونوا هذا الذي ندين الله به((حقوق الإنسان 1/ب) ) ا هـ .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
جمعه وأعده ونسقه وزاد عليه: أخوكم جمال البليدي غفر الله له وستر عيوبه.
المراجع المعتمدة في هذا البحث :
1-المدارج في كشف شبهات الخوارج للشيخ أحمد بن عمر بازمول.
2-معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة للشيخ عبد السلام برجس رحمه الله.
3-درء المهاترات في حوار هادئ بين مؤيد ومعارض على منع المظاهرات للأخ أبو عبد عبد الرحمن الأصبحي تقديم الشيخ أبو بكر الحمادي.
4- الثورة والثوار في ميزان القرآن والسنة ومنهج سلف الأمة لأبو حمزة محمد بن حسن السوري تقديم فضيلة الشيخ العلامة يحي بن علي الحجوري.