كان هديه صلى الله عليه وسلم في البول كهديه في الشرب، إذ كان غالباً ما يشرب ويبول قاعداً، وقد بال كما شرب قائماً لبيان الجواز، ولبعض الأعذار.
هذا على الرغم من أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم حديث ينهى عن البول قائماً، وإنما مستند المانعين من البول قائماً فعله، كما قالت عائشة رضي الله عنها، وعادته، وكراهية بعض الصحابة لذلك.
فقد روى أهل السنن؛ أحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها بإسناد جيد أنها قالت: "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً".
وكذلك روى البيهقي في سننه الكبرى1 عن عبد الرحمن بن حَسَنة قال: "كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده درقة، فبال وهو جالس، فتكلمنا فيما بيننا، فقلنا: يبول كما تبول المرأة؟ فأتانا فقال: ما تدرون ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كان إذا أصابهم بول قرضوه، فنهاهم فتركوه، فعذب في قبره"، زاد ابن عيينة: "فاستتر بها – أي الدرقة – فبال وهو جالس".
أما بوله قائماً في بعض الأحيان فقد رواه عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
فقد خرج الشيخان2 وغيرهما عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة3 قوم فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه4؛ فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه".
وفي رواية للبخاري5: "كان أبوموسى الأشعري يشدد في البول، ويقول: إن بني إسرائيل كان إن أصاب ثوب أحدهم قرضه6؛ فقال حذيفة: ليته أمسك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً"؛ وفي رواية أن حذيفة سمع أبا موسى ورأى رجلاً يبول قائماً، فقال: ويحك أفلا قاعداً؟ ثم ذكر قصة بني إسرائيل.
وخرج الشيخان واللفظ للبخاري7 عن أبي هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وهريقوا8 على بوله سَجْلاً9 من ماء – أوذنوباً من ماء – فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".
ومن مراسيل مالك10: "دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول، فصاح الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتركوه11؛ فتركوه فبال، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، فصب على ذلك المكان".
وروى مالك عن عبد الله بن دينار12 أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يبول قائماً".13
الأحاديث التي وردت في النهي عن البول قائماً، وتُكُلِّم فيها
1. روى الترمذي14 مُعَلقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، فقال: "يا عمر لا تبل قائماً"، قال: فما بلت قائماً بعد.
قال الترمذي: وإنما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث.
2. وروى البزار وغيره كما قال ابن القيم في الزاد15 من حديث عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أوأن يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أوينفخ في سجوده"؛ قال: ورواه الترمذي، وقال: هو غير محفوظ، وقال البزار: لا تعلم من رواه عن عبد الله بن بُرَيدة إلا سعيد بن عبيد الله، ولم يجرحه بشيء، وقال ابن أبي حاتم: هو بصري ثقة مشهور.16
3. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً".17
تأويل وتعليل أهل العلم لبوله صلى الله عليه وسلم قائماً
علل أهل العلم بول الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً بتأويلات وتعليلات كثيرة18 ، منها:
1. كانت العرب تستشفي من وجع الصلب بالبول قائماً، فلعله فعله من أجل ذلك، وقد ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي.
2. فعل ذلك لعلة بمأبضه – باطن الركبة، وهو مروي عن البيهقي.
3. لم يجد مكاناً للقعود فاضطر للقيام.
4. البول قائماً يؤمن معه خروج الريح بصوت.
5. البول قائماً أحصن للدبر من الحدث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
6. لبيان الجواز
7. منسوخ.
أرجح هذه التعليلات تعليلان، هما:
1. أنه فعله لعلة مرض أوغيره.
2. أوفعله لبيان الجواز.
أقوال أهل العلم في ذلك
قال النووي رحمه الله معلقاً على حديث حذيفة السابق: (فعله للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة يبول قاعداً، ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها.
إلى أن قال: وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت).19
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأكثر ما كان يبول وهو قاعد، حتى قالت عائشة: "من حدثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه.."، وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث حذيفة أنه بال قائماً، فقيل: هذا بيان للجواز، وقيل: إنما فعله لوجع كان بمأبضيه، وقيل: فعله استشفاء.. والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبعداً من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم، وهي ملقى الكناسة، وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعداً لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بد من بوله قائماً، والله أعلم).20
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر تعليلات أهل العلم لبوله قائماً: (والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، والله أعلم.
وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر، فزعما أن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة الذي قدمناه.. والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن.
إلى أن قال: ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء كما بينته في أوائل شرح الترمذي، والله أعلم).21
حكم البول قائماً
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:
1. مكروه كراهة تنزيه، إلا من عذر، وهذا هو الراجح للأدلة السابقة.
2. إن كان في مكان يتطاير منه البول فهو مكروه، وإلا فلا بأس به، وبهذا قال مالك رحمه الله.
3. البول قاعداً أحب، وقائماً مباح، وهو مذهب ابن المنذر رحمه الله.
أقوال أهل العلم في ذلك
قال النووي: (قال العلماء: يكره البول قائماً، إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم.
قال ابن المنذر في "الإشراف": اختلفوا في البول قائمـاً، فثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، أنهم بالوا قياماً، قال: وروي ذلك عن أنس، وعلي، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وفعل ذلك ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وكرهه ابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم بن سعد، وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائماً، وفيه قول ثالث: إنه إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه، فإن كان لا يتطاير فلا بأس به، وهذا قول مالك، قال ابن المنذر: البول جالساً أحب إليَّ وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).22
وقال ابن حجر: (وقد ثبت عن عمر، وعليّ، وزيد بن ثابت، وغيرهم، أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم).23
من صحَّ عنه أنه بال قائماً
1. رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3. زيد بن ثابت رضي الله عنه.
4. عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
5. سهل بن سعد رضي الله عنه.
6. أنس بن مالك رضي الله عنه.
7. أبو هريرة رضي الله عنه.
8. عروة بن الزبير رحمه الله.
9. ابن سيرين رحمه الله.
من كره البول قائماً كرهاً شديداً
1. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2. أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
3. الشعبي رحمه الله.
4. إبراهيم بن سعد رحمه الله.
علة من شدد وحذر من البول قائماً
العلة الأساس التي حذر من أجلها وشدد في البول قائماً بعض السلف تطاير البول ورشاشه لأرجل البائل وثيابه، وذلك للحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة - أومكة24 – فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة"25؛ وفي رواية: "لا يستنزه"، أي لا يتحفظ.
وبما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: "أكثر عذاب القبر من البول".26
على الرغم من أننا نهينا عن التشدد لكن لابد من التحوط والحذر.
قال الحافظ ابن حجر: (وإنما احتج حذيفة بهذا الحديث27 لأن البائل عن قيام قد يتعرض للرشاش، ولم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاحتمال، فدل على أن التشديد مخالف للسنة، واستدل به مالك في الرخصة في مثل رؤوس الإبر من البول، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال لم يصل إلى بدنه منه شيء).28
الخلاصة
أولاً: أن الأصل أن يبول الإنسان قاعداً، ورُخِّصَ لمن به علة تمنعه من القعود، أوعنده عذر وأمن من تطاير البول على بدنه وثيابه أن يبول قائماً.
ثانياً: أن البول قائماً إذا أمن الإنسان تطايره ورشه لبدنه وثيابه ليس من الكبائر، ولا من مسقطات المروءة، ولا ينبغي لأحد أن ينتقص أحداً من أجل ذلك، والله أعلم.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن شر فتنة المحيا والممات، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.