كلنا نعلم أن تحولاً هائلاً قد وقع في الكون بنزول القرآن الكريم ، حيث
سارت معه قافلة الحياة ، على هدى ونور من خالقها ومبدعها ، ونشطت مع فجره
نفوس لبت نداء ربها فأحياها وجعل لها نوراً تمشي به في الناس. وبقي القرآن
بقاء النور في الكون ، لا يتوقف مدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولم
نر شيئاً تفجرت به ينابيع الحكمة وامتدت منه أنهار المعرفة في غير انقطاع
كما تم للقرآن الكريم { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } (ص 29 ) .
لقد شغل الناس جميعاً من آمن به وصدقه ومن أعرض عنه وكذبه. وأثر في هذا
وذاك ، مطاوعة ومكابرة ، وتأييداً ومعارضة ، ونجاة وهلاكاً ، ورفعاً ووضعاً
، وحرباً وسلماً ، وهزيمة ونصراً ، وظل القرآن في جميع الأحوال وسيظل
عزيزاً شامخاً أبياً ، ولو تكسرت من حوله السيوف ، أو ضعفت في الأقبال عليه
النفوس { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } (فصلت 41) .
لقد نزل القرآن الكريم وبنزوله طويت الكتب ، وختمت الرسالات ، وحفظت للناس
أسباب الحياة ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه أن الذين
يداومون على تلاوته ، ويعملون بأحكامه ، ويحذرون مخالفته ، أولئك يوفيهم
الله ما يستحقونه من الثواب العظيم ، ويضاعف لهم الأجر الكريم { إن
الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً
يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } (فاطر : 29-30 ) ولقد صان الله كتابه عن التحريف والتبديل : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر: 9) .
ومضى القرآن في الحياة يعلن الرسالة : رسالة جميع الأنبياء كما جاءت من عند
الله ، ويقيم الحجة على الناس جميعاً ، ويدعوهم إلى كلمة سواء .
يدعو الناس في كل زمان ، ويتلى عليهم في كل مكان ، ويهديهم في كل شأن للتي
هي أقوم . وبالقرآن وبيانه نستطيع أن نزن الأمور كلها بالميزان الصحيح ،
ميزان الله الذي أنزله وحفظه وأبقاه : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
} (الحديد : 25 ) . لقد نزل هذا الكتاب المبين في شهر رمضان الكريم ، في
بلد الله الأمين على سيد ولد آدم أجمعين ، فاجتمع الشرف من جميع جوانبه ،
شرف الزمان وشرف المكان وشرف الإنسان :
إن القرآن العظيم رسالة ربانية المنهج ، متكاملة المعالم والأغراض ، واضحة
المعاني والأهداف ، سهلة الفهم والتطبيق ، ومع ذلك فالناس في الغالب نيام ،
فإذا ماتوا انتبهوا . إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن خير
الناس وأفضلهم الذي يتعلم القرآن الكريم ويعلمه ، وذلك فيما ثبت عن عثمان
رضي الله عنه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري .
كما بين صلوات الله وسلامه عليه أنه من جوّد القرآن وأحسن قراءته ، وصار
متقناً له ماهراً به عاملاً بأحكامه فإنه في مرتبة الملائكة المقربين ،
وذلك فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال :"مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" رواه البخاري .
ولقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بما أعده الله سبحانه وتعالى لقارئ القرآن
من أجر كبير وثواب عظيم ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي ، فكيف نغفل عن هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل ؟!
وأعظم من هذا كله أن القرآن يشفع لصاحبه عند الله يوم العرض الأكبر ، فهل بعد هذا الفضل من فضل ؟!
فعن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" رواه مسلم .
كما يوضح لنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، أن قراءة القرآن يطيب بها
المظهر والمخبر ، فيكون المؤمن القارئ للقرآن طيب الباطن والظاهر ، إن خبرت
باطنه وجدته صافياً نقياً ، وإن شاهدت سلوكه وجدته حسناً طيباً ، فعن أبي
موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل
المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن
الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب ، ومثل المنافق
الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي
لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" متفق عليه .
ويكفينا فخراً أن نتوج والدينا تاجين من حلي الجنة بقراءة القرآن وتدبره وحفظه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا" رواه أبوداود .
وعلاوة على ذلك ، فإن الإنسان بقدر ما يحفظ من آي القرآن وسوره بقدر ما
يرتقي في درج الجنان ، وذلك فيما يرويه عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى
عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " رواه أبو داود .
ثم إن صاحب القرآن قلبه عامر به يتدبر آيات الله ، ويتفكر في دلائل قدرته
وعظمته ، وبذلك تصفو نفسه ، وتجمل أخلاقه ، وترق أحاسيسه ، والرسول صلى
الله عليه وسلم يخبرنا بأن حافظ القرآن هم أصفياء الله وخاصته ، وأولياؤه
وأنصاره ، وذلك فيما رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله أهلين من الناس قالوا يا رسول الله من هم ؟ قال هم أهل القرآن أهل الله وخاصته"